ندوة عقلانية الموروث الإسلامي في سياق الفكر المعاصر

 عقدت مؤسسة طابة للدراسات الإسلامية، التي تُعنى بإعادة صياغة الخطاب الإسلامي المعاصر وتقديم الأبحاث والاستشارات وتتخذ من أبوظبي مقراً لها، ندوة فكرية تحمل اسم: “عقلانية الموروث الإسلامي في سياق الفكر المعاصر”، وذلك بالتزامن مع الاجتماعات نصف السنوية للجنة العلمية للمؤسسة، وقد ألقت الندوة الضوء على البحث الذي أصدرته المؤسسة مؤخراً حول فكر ما بعد الحداثة للدكتور كريم اللحام الباحث في مؤسسة طابة ومحامي الهيكل الداخلي البريطاني.

هذا وقد شهدت الندوة حضور بعض أبرز الشخصيات الإسلامية يتقدمها فضيلة مفتي الديار المصرية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشيخ الدكتور علي جمعة، والداعية المفكر الحبيب علي الجفري رئيس مجلس إدارة مؤسسة طابة، والدكتور عارف نايض السفير الليبي بالدولة ورئيس مؤسسة كلام، وعدد من أساتذة جامعة زايد ونخبة من الأكاديميين والمهتمين.

افتتح الندوة الحبيب علي الجفري مشيراً إلى أن هناك منعطفاً ثقافياً كبيراً تمر به المنطقة، له مقدماته التي قد تعود إلى ثلاثة أو أربعة قرون مضت، إلا أن هذا المنعطف سريع التحول في هذه المرحلة التي نعيشها مع ما يشبه الغيبوبة فيما يتعلق بالتجديد المنبثق عن الموروث العلمي المتصل من خلال تصور صحيح لمتحولات الواقع الإنساني. وأضاف أن بيت الخطاب الإسلامي اليوم يعيش إشكالية القدرة على استمرارية الاتصال بالسند المتصل روايةً ودرايةً وتزكيةً، وبالتدرج العلمي الذي ألِفَته الأمة بمنهجية مؤصلة مع القدرة على استيعاب تحديات الزمان الذي نعيشه في عصرنا.

أدار الندوة الدكتور أسامة السيد الأزهري المشرف على مكتب رسالة الأزهر، وقد ألقى مؤلف البحث الدكتور كريم اللحام الورقة الأساسية في الندوة والتي كان هدفها التطرق لتبعات الأفكار التي يرتكز عليها الحداثيون في فهمهم للتراث الإسلامي، من خلال تناول مواقفهم الفلسفية الضمنية التي نتجت عنها أحكامهم على الموروث الديني، منتقداً ذاك الصياح المتزايد المبالغ فيه من أجل الدعوة إلى الإصلاح في ظل فقر معرفي وفلسفي في أساسيات الإصلاح الفكرية.
وقد تركزت محاور ورقة المؤلف في النظر في مدى دقة استيعاب هؤلاء الحداثيين للأصول الفلسفية، ومدى دقتهم في تطبيقها على الموروث الإسلامي، وانتقد تقوقع الحداثيين أو ما وراء الحداثيين في كهف إيديولوجي غالبه افتراضات تؤثر على المبادئ الأولى والأصول العقلية، مما أدى إلى إفراز عدد من الحواجز العقلية بين المسلم وتراثه الغني بالمناهج البحثية الرصينة، وخطورة هذا تكمن في اختزال الدين على الشعائر والسياسة من خلال وضع الحواجز المعرفية بين الدين والإنسان، ونبه إلى خطر مرحلة التحول الهائل لترتيب العلوم التي دعا إليها الحداثيون والتي أدت إلى غياب عدد من القواعد في ترتيب تلك العلوم وكيفية بناء المفاهيم والفلسفات على القواعد العلمية. وفي ختام ورقته دعا المؤلف إلى إعادة النظر بشكل شامل في العلاقات البينية للعلوم التقليدية وإعادة استخراج ما كان كامناً في عقل المسلم من خريطة معرفية.

قام بالتعقيب على البحث الشيخ سعيد فودة الباحث في علم الكلام حيث أشاد بالبحث العميق في حقيقته وفي مآلاته وفي مقاصده، وفي محاولته نقض الأسس الفكرية والفلسفية والمعرفية التي اعتمدت عليها تلك المدرسة الفكرية كما أشار فودة إلى أن من سمات الفلسفة المعاصرة أنها صارت تتخذ الإنسان بكليته وليس العقل مرجعاً لفهم العالم، وهذه إحدى أهم صفات فكر ما وراء الحداثة، وهو الفكر الذي نعاني منه حتى الآن وهو إنكار مقولة أن العقل موجود في ذاته، تبعاً لفلسفة نيتشه، الذي اعتبر أن العقل هو أحد أسباب تخلف الإنسانية، حيث لم يعترف فكر ما وراء الحداثة بوجود بدهيات عقلية ووصفوا العقل بالصنم الذي يجب أن يهدم على حد تعبيرهم.

عقب ذلك كانت مداخلات الحضور، بدأها فضيلة الدكتور علي جمعة الذي تطرق إلى تعريفات العقل عند المسلمين، وإلى مربع العقل وهو: الدماغ، والحواس السليمة، والواقع المحسوس، والمعلومات السابقة، والذي يوضح موضوع التكليف ومناطه، وأكد على أهمية المعلومات السابقة ومصدريها وهما الوحي والوجود. والوحي عند العلماء المسلمين هو كتاب الله المسطور وهو القرآن الكريم، والوجود هو كتاب الله المنظور وهو الكون. وبهذا تقرر عند المسلمين أن الوحي هو مصدر من مصادر المعرفة، فالمسلم يأخذ من الكتابين معاً مفترضاً عدم تعارضهما، وأن التعارض إذا حصل فهو تعارض مع فهم النص القرآني وليس مع النص نفسه، وهذا ما جعل العلماء يقسمون نصوص القرآن قطعية الورود إلى قطعية الدلالة وظنية الدلالة، ولذلك فليس الوحي فوق العقل وليس مضاداً له أيضاً، بل هو مصدر من مصادر العقل، وكذلك فالوجود هو مصدر من مصادر العقل، وأن الكون إذا تعارض مع فهم النص فيقدم الكون على الفهم الظني للنص. وأضاف أن المسلمين هم الوحيدون الذين تطرقوا إلى العقل الجمعي الذي يعد مركباً أساسياً في تركيب العقل ولا يمكن الاستغناء عنه.

كانت بعد ذلك مداخلة الدكتور عارف نايض الذي تكلم عن التهافت الذي وقع فيه الحداثيون والذي لا يتعدى كونه أشكالاً جديدة من السفسطة، والمغالطات التي تتعلق بالمنحى القرآني أو حصر الاستدلال بالقرآن الكريم وهي ما سمي بمدرسة القرآنيين، وأن الملاحظ في كتاباتهم وكتابات مدرسة ما بعد الحداثة هو تحليل النص باستخدام آليات معينة من مثل التحليل المعنوي أو السيموطيقية أو الهيرمنيوطيقية أو البنوية ووقوعهم في الخطأ من خلال النظر في علاقات المعاني ببعضها البعض دون الرجوع لمقتضيات الحال من مثل مقتضى الحال التاريخي (أسباب النزول) أو مقتضى الحال التراكمي أو ما يسمى بالعقل الجمعي. وإن نزع النص القرآني من سياقه التاريخي ومن وعاء السنة النبوية وهي المفسرة للقرآن والسند المتصل لهذه السنة وهو الذي يجعل المعارف والمفاهيم تتراكم عبر الأجيال بسند متصل يؤدي إلى الوقوع في هذه المغالطات التي وقعوا بها أثناء تفسيرهم للنص القرآني، وأشار في نهاية مداخلته إلى الحاجة الماسة إلى علم الكلام وربط هذا العلم بالفلسفات المعاصرة.

تبعتها مداخلة الدكتور علي الكنيسي، أستاذ الفلسفة والدراسات الإسلامية بجامعة زايد مشيراً إلى أن الفلاسفة المسلمين وعلى رأسهم الكندي أفاضوا في تناول نظرية العقل، وقد فسروا وشرحوا واستنبطوا بل وصححوا ما ورد عن العقل في الفلسفة اليونانية، بعد ما ترجموا كتب هذه الفلسفة إلى العربية، وقد ضرب لذلك مثالاً ما صححه الكندي على أرسطو في كتابه “في ماهية العقل” من أن العقل له وجهان، عقل فعال وعقل منفعل، بينما صحح الكندي التقسيم الذي وضعه أرسطو من خلال استيعابه العميق لجوهر الدين ذاته، فقال إن العقل يكون على أربعة وجوه: العقل الأول وهو الله، والعقل الموجود في الإنسان وهو سبيل الاتصال بالعقل الأول، والعقل المستفاد، والعقل البائن.

وجدير بالذكر أن هذا البحث يأتي ضمن سلسلة ورقات طابة التي يصدرها مركز أبحاث المؤسسة وكان القصد من وراء هذا البحث سبرُ غور البنية المفهومية التي تقوم عليها كتاباتُ أصحاب الفكر ما بعد الحداثي. ويخلص البحث إلى أنّ كلَّ مفكّر وكاتب إنما هو وريث سلسلةِ أفكارٍ أو نظام فكري يظهر جليًا بالضرورة في كتاباته بوعي منه أو بغير وعي، حيث لا وجود لفكرة يتيمة أو فكرة بلا أصل مفهومي. وهذا يعني أنّ صحةَ أيِّة فكرةٍ أو سلامتَها تعتمد اعتمادًا دقيقًا على أرومة سلالتها. وعلى ذلك فإنّ قيمةَ هذا الفكرِ أو أي فكر آخر حتمًا مرتبطةٌ بقيمة منشأ أفكاره، الذي سعى الباحث بإيجاز لتقفي أثره وتقييمه في هذا البحث